لا زالت تبحث عن رجل ........
رأيتها جالسة على عتبة بيتها، تحدق بالأفق، تودع نهاراً آخر ينجلي،
تتأمل الشمس وهي تصبغ
الغيوم بلون دموي، تتلفت بعينيها يميناً وشمالاً وكأنها تبحث عن شئ
- عما تبحثين يا جدة؟
- أبحث عن رجل،
- رجل؟! هل فقدت أحدا؟
أهملت سؤالي وكأنها لم تسمعه، واستمرت تبحث بعينيها يمينا وشمالا...
- هل أنت وحيدة يا جدة؟
- نعم.
- أين أهلك؟ أين زوجك وأولادك؟
- تركتهم هناك...
- هناك!! أين؟
- هناك، لابد وأنهم التقوا ببعضهم البعض، أليس كذلك؟
- من هم ؟ أين سيلتقون؟
ما بك يا جدة؟ تبدين مريضة؟
- أنا مرهقة يا ابنتي
- مما يا جدة؟
-
كم عمرك يا ابنتي؟
20 عاماً
- أنت صغيرة جداً.
وأنت يا جدة؟
- أنا قديمة جدا، حين رحلنا كنت في مثل عمرك، ومنذ ذلك اليوم كبرت مليون سنة.
أي يوم؟ رحلتم من أين؟
يوم قالوا لنا بأن اليهود سوف يبيدونكم كالجراد إن لم تغادروا بيوتكم، يومها سمعنا بأن العرب
غير راضين عما يحدث، وقالوا لنا بأن الجيوش العربية سوف تأتي لتدافع عن الأرض العربية،
خرج يومها رجالنا ليقاتلوا مع جيوش العرب، ولكنهم لم يعودوا،أخبرنا من رآهم بأنهم أسروا،
وقالوا لنا بان الجيوش العربية سوف لن تستكين حتى ترد الحق المغتصب، وتفك أسر رجالنا....
- يومها رحلت دون زوجي مع أبنائي الثلاثة وتركنا بيتنا والنيران تشتعل بين أرجائه.
........ حين رأيت الدموع في عينيها شعرت وكأنني لأول مرة في حياتي أرى إنسانا يبكي!
- وبعد، ماذا حدث يا جدة؟
- سرنا في الطريق، وكانت مظلمة مؤلمة، أطول من العمر، وأكثر وحشة من الزنازين، تعذبت
كثيرا، وكنت طوال الطريق أبحث عن رجل يعينني على أمري ولم أجد...
وصلنا إلى حيث ساقونا، كنا كثيرين، ولكننا وقفنا ملجومين، وبقينا كذلك... عشت سنيني وأنا أتمنى
أن يمر يوم يشعر فيه أولادي بأنهم بشر كسائر البشر، وكنت دائما أبحث عن رجل يعينني على
أمري، ولم أجد...
كبر أولادي ولكنهم لم يبقوا إلى جواري، تركوني دون أن يودعوني، قال لي الناس بأنهم قد لحقوا
بالفدائيين، لو أنهم اخبروني لما منعتهم، يا ليتهم أخبروني لذهبت معهم. أردت ذات يوم أن أرسل
لهم أشياء يحتاجونها، حاولت كثيرا ، ولم أيأس، حاولت وحاولت ولكنهم منعوني، بحثت عن رجل
يعينني على أمري، ولكني لم أجد...
قاسيت في عمري كثيرا، سرت في الدنيا وحدي، طاردت بين أزقة الحياة الشائكة، وسراديبها
الموحشة، ربيت أبنائي ليصبحوا أسوداً، أنتشل من مخالب الذئاب لحمي، وأدوس فوق رقاب
اللصوص والأوغاد بكرامتي، عانيت... عانيت.... وكنت طوال الوقت أبحث عن رجل يعينني على أمري، ولكني لم أجد...
وأتعبني البحث كثيرا يا ابنتي.
منذ متى وأنت تبحثين يا جدة؟؟
منذ ذلك اليوم، منذ الخامس عشر من أيار عام 1948
55 عاما يا ابنتي ، ولا زلت ابحث عن رجل!